... أيام لاتنسى🌻


 

  الكاتب_ الشاعر أ. لطفي منصور

🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀

أ. د. لطفي منصور

قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ

أَيّامٌ لا تُنْسَى:

تَرَكَ أَحْمَدُ طِفْلَيْنِ أَحَدَهُما رَضِيعٌ وَزَوْجَةً شابَّةً في رِعايَةِ والِدَيْهِ، وَسافَرَ لِيَلْتَحِقَ بِمَعْهَدِ إعْدادِ الْمُعَلِّمِينَ.

كانَ هَمُّهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَلْمْ يَلْتَفِتْ إلى وَظِيفَتِهِ الْمُوَقَّتَةِ في التَّدْرِيسِ بَدَلَ أَحِدِ الْمُعَلِّمِينَ الْغائِبينَ، وَمَكَثَ فيها عِدَّةَ أَسابِيعَ رَيْثَما يُفْتَحُ صَفُّهُ مُتَأَخِّرًا بَعْضَ الشَّيْءِ.

وَفي مُثُولِهِ أَمامَ لَجْنَةِ الْقَبُولِ دارَ الْحِوارُ الْآتِي:

- ما اسْمُكَ؟

- أَحْمَد حَسَنِين

- لِماذا قَدِمْتَ إلى هُنا؟ سَأَلَ أحَدُ أَعْضاءِ اللّجْنَةِ وَكانَ مُفَتِّشًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

- جِئْتُ لِأَتَعَلَّمَ.

- هَلْ تَعْرِفُ ماذا سَتَكُونُ؟

- نَعَمْ أَكُونُ مُعَلِّمًا.

- أَنْتَ مُعَلِّمٌ يا أَحْمَدُ! زَوْجَتي مُدِيرَةُ الْمَدْرَسَةِ الَّتي تُعَلِّمُ فيها راضِيَةٌ عَنْكَ. هُناكَ بَعْضُ الْمَوادِّ التَّرْبَوِيَّةِ اِقْرَأْها وَتَقَدَّمْ لِامْتِحانِ التَّأْهِيلِ وَسَتُصْبِحْ مُؤَهَّلًا.

- أَدْرِي هذا أُسْتاذي لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ.

- ما هُوَ مُكَعَبُ الثُّلُثِ؟ سَأَلَ عُضْوٌ آخَر مُخْتَصٌّ بِالرِّياضِيّات

أَجَابَ  صَحِيحًا، وَأَتْبَعَ ذلكَ بِعِدَّةِ  أَسْئِلَةٍ كانَتْ إجاباتُهُ سَلِيمَةً.

ثُمَّ جاءَ دَوْرُ مُفَتِّشِ الْعَرَبِيَّةِ فَسَألَ عَنِ المُتَنَبِّي وشِعْرِهِ، وَعنْ كِتابِ الْأَيّامِ وَإعْرابِ جُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ. أَجابَ عَلَيْها كُلِّها إجاباتٍ سَلِيمَةً ثُمَّ قالُوا لَهُ تَفَضَّلْ لَقَدْ قُبِلْتَ.

كانَ التَّعْليمُ في يافا لَيْسَ أَمْرًا سَهْلًا. كانَتْ فِرْقَتُهُ أَرْبَعِينَ طالِبًا مِنَ الْمُثَلَّثِ وَالْجَلِيلِ ، مِنْ عِدَّةِ طَوائِفَ، وَكانَ النِّظامُ صارِمًا، كانَ هُناكَ مَنْزِلٌ لِلطُّلّابِ بَعيدٌ عَنْ بِنايَةِ التَّعْلِيمِ، وَمَنْزِلٌ لْلطّالِباتِ في بِنايَةِ التَّعْليم نَفْسِها.

كانَ الطَّعامُ ثَلاثَ وَجَباتٍ في الْيَوٍمِ، في مكانِ التَّعْلِيمِ، وَوَقْتُهُ مُحَدَّدٌ لا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، لا يُقَدَّمُ شَيْءٌ في الِاسْتِراحاتِ لِمْسْحِ الْحُنْجَرَةِ أَوْ بَلِّ الرِّيقِ .

لا تُقَدَّمُ الْفَواكِهُ أَوِ الْمُقَبِّلاتُ أَوِ نَوْعٌ مِنْ أَنْواعِ الْكَعِكِ. لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا مِنْ هَذا.

كانَ الْقَسْطُ الدِّراسِيُّ باهِظًا، وَقَسْطُ الْمَنْزِلِ الشَّهْرِيِّ باهِظًا جِدًّا، وَأحْكامُ الْمَنْزِلِ أَكْثَرَ صَرامَةً، تُغْلَقُ الْأَبْوابُ السّاعَةَ الثّامِنَةَ لا يَدْخُلُ أَحَدٌ بَعْدَها. لا تُوجَدُ مَكْتَبَةٌ لِلْمَعْهَدِ، وَلا فَعالِيّاتٌ تَرْبَوِيَّةٌ أَوْ تَعْليمِيّةٌ أَوْ تَرْفِيهِيَّةٌ في الْمَنْزِلِ . يَقْضُونَ الْوَقْتَ في الْقِراءَةِ وَالْمُطالَعَةِ وَالِاسْتِعْدادِ لِلِامْتِحاناتِ الْمُتَلاحِقَةِ. كانَ مِعْظَمُ التَّعْلِيمِ بِالْعِبْرِيَّةِ وَعَلى الطُّلّابِ أَنْ يُجِيدوها قِراءَةً وَكِتابَةً كَالنّاطِقينَ بِها، وَمُعْظَمُ الْمُحاضِرِينَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ.

كانَ الْجَوُّ التَّعْليمِيُّ مُوَتِّرًا وَمُسْتَفِزًّا، كُلُّ طالِبٍ يَرْسُبُ في أَرْبَعَةِ مُواضِيعَ يُطْرَدُ مِنْ دارِ الْمُعَلِّمِينَ، وَيُطْرَدُ كَذَلِكَ مَنْ خالَفَ قَوانِينَ الْمَعْهَدِ.

كانَ مُدِيرُ الْمَعْهَدِ عُنْصُرِيًّا خالِيًا مِنَ الثّقافَةِ، دَأْبُهُ الْوَعِيدُ وّالسَّبُّ والتَّهْدِيدُ بِالْفَصْلِ .

كانَ الْمَنْزِلُ بِنايَةً قَدِيمَةً تَتَكَوَّنُ مِنْ طابِقَيْنِ ، الْأَرْضِيُّ مُغْلَقٌ لا يُعْرَفُ ما فِيهِ، وَالْعُلْوِيُّ يَشْمَلُ عَشْرَ غِرَفٍ وَحَمّاماتٍ وَمَراحِيضَ قَليلَةً، تَزْدَحِمُ في الصَّباحِ . وَيَكْثُرُ التَّذَمُّرُ واللَّغَطُ. يُفيقُ الطُّلّابُ في السّادِسَةِ صَباحًا، يَقْضُونَ حاجاتِهِمْ بِأَقْصَى سُرْعَةٍ لِيَكُونوا في السّابِعَةِ في بِنايَةِ التَّعْليمِ لِتِناوُلِ وَجْبَةِ الْفَطُورِ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يَتَأَخَّرُ قَدْ يُحْرَمُ مِنَ الْفَطُورِ.

كانَ التَّعْلِيمُ يَبْدَأُ في الثّامِنَةِ صَباحًا، فَإذا دَخَلَ الْمُحاضِرُ الصَّفَ لا يَجُوزُ لِأَحِدٍ مِنَ الطُّلابِ الدُّخُولُ إلى غُرْفَةِ الدَّرْسِ.

في الْحٍصَّةِ الْأُولَى كانَ يَدْخُلُ مُدِيرُ الْمَعْهَدِ لِيُسْمِعَ فّرَماناتِهِ الْمُنْطَوِيَةَ عَلى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.

كُلُّ غُرْفَةٍ في الْمَنْزِلِ كانَ يَسْكُنُها

أَرْبَعَةُ طُلّابٍ أَسِرَّتُها مِنَ الْأَلَمِنْيُوم رَقيقَةُ الْفِراشِ، وَخُصِّصَتْ خِزانَةٌ واحِدَةٌ لِكُلِّ طالِبَيْنِ .

لَوْ شاهَدْتُمُ أَحْمَدَ - وَهُوَ يَحْمِلُ حَقِيبَتَهُ يَذْرَعُ الشّارِعَ الطَّويلَ لِيَصِلَ إلى مَكانِ التَّعْليمِ، وَقَدْ خَلَصَ مِنَ الْوَظائِفِ وَأَعَدَّ نَفْسَهُ لِلْمُحاضَراتِ الْجَديدَةِ، هَمُّهُ الْأَوّلُ النَّجاحُ في الِامْتِحاناتِ والْحُصُولُ عَلى عَلاماتٍ عالِيَةٍ يَعْتَزُّ بِها أمامَ زُمَلائِهِ، وَيَحْظَى بِتَقْدِيرِ الْمُعَلِّمِينَ واحْتِرامِهِم - لَقُلْتُمْ: حَقًّا جاءَ هَذا لِيَتَعَلَّمَ وَيَشُقَّ مُسْتَقْبَلًا باهِرًا. لا يَلْتَفِتُ إلّا لِدَرْسِهِ وَكِتابِهِ.

- "يا رَبُّ خُذْ رُوحي وَأَنا في نَوْمِي حَتَّى أَسْتَريحَ مِنْ هَذِهِ الْحَياةِ"

دُعاءٌ أَذْهَلَهُ مِنْ زَميلٍ لَهُ يُدْعَى حَسَنًا في غُرْفَةِ الْمَنْزِلِ ، كانَ يَتَذَمَّرُ كَثيرًا وَيَبْدُو عَلَيْهِ الْقَلَقُ لِأَسْبابٍ لا يُفْصِحُ عَنْها، لَكِنَّها حَسْبَ ما فَهِمَ أَحْمَدُ لا عَلاقَةَ لَها بِالْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ.

- ما جَرَى لَكَ يا صَدِيقي؟ لِماذا هذاءُ الدُّعاءُ بِالْمَوْتِ؟

- أُتْرُكْنِي أَحْمَدُ أَمُتْ، وادْعُ لي بِذَلِكَ.

- أنا أَدْعُو لَكَ بِالْمَوْتِ! سَلامَتَكَ يا أَخي.

- الْمَوْتُ هُوَ الْوَحِيدُ هُوَ الَّذِي يُرِيحُنِي.

ثَلاثَةُ أَيّامٍ مَرَّتْ وَحَسَنٌ يَدْعُو عَلى نَفْسِهِ بِالْمَوتِ مِمّا زادَ مِنْ فَضُولِ أحْمَدَ.

اسْتَغَلَّ أَحْمْدُ انْشِغالَ زَميلَيْهِ الْآخَرَيْنِ خارِجَ الْغُرْفَةِ وَتَقَدَّمَ وَجَلَسَ عَلَى حافَّةِ سَرِيرِ صاحِبِهِ الْمُتَبَرِّمِ وَالْقَلِقِ .

- بِاللَّهِ عَلَيْكَ إلّا قُلْتَ لِي ما الَّذي يُزْعِجُكَ.

- اِعْذِرْنِي يا صَدِيقي لا أُرِيدُ لَكَ أَنْ تَقَعَ في هُمُومِي.

- سَتَجِدُني لَكَ خَيْرَ ناصِحٍ وَدَعْنِي أُشارِكْ في هُمُومِكَ عَسَى أَنْ نَجِدَ مَخْرَجًا وَفَرَجًا.

- الْمُشْكِلَةُ يا أَخي مَعَ أَهْلي يُرِيدونَ مِنِّي أَنْ أَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّي. قالُوا لِي إنَّها مَعْطِيَّةٌ لَكَ مِنْ عَهْدِ الطُّفُولَةِ، وَأَنا أَعْتَبِرُها مِثْلَ أُخْتِي، وَيُريدونَ أَنْ يَكُونَ الزَّواجُ في الصَّيْفِ الْقادِمِ، قَبْلَ أَنْ أُنْهِيَ الدِّراسَةَ في الْمَعْهَدِ. وَأَنا أُحِبُّ فتاةً، عَشِقْتُها مِنَ الْفَتْرَةِ الثانَوِيَّةِ، وَبَيْنَنا مُكاتَباتٌ. فَما الْعَمَلُ،وَأَبي رَجُلٌ عَصَبِيٌّ لا يَتَحَمَّلُ رَفْضي.

- ما تَقُولُ والِدَتُكَ ألا تَسْتَطِيعُ إقْناعَ أَبِيكَ بِرَفْضِكَ؟

- هِيَ مَعَهُ لِأَنَّها ابْنَةُ أُخْتِها.

- اِنْتَبِهْ! عَلَيْكَ إكْمالُ دِراسَتِكَ، تَحَدَّثْ مَعَ والِدَيْكَ بُلُطْفٍ وَاقْنِعْهُمْ بِتَأْجِيلِ فِكْرِةِ الزَّواجِ  حَتَّى تُنْهِيَ دِراسَتُكَ، وَتَتَسَلَّمَ وَظِيفَتَكًَ، أَيْ بَعْدَ سَنَةٍ وَنِصْفِ، لا تَعِدْهُما بِشَيْءٍ، الْمُهِمُّ إنْهاءُ الدّراسَةِ وَتَسَلُّمُ الْوَظِيفَةِ.

اِشْتَغِلْ عَلى أُمِّكَ النِّساءُ أَكْثَرُ عاطِفَةً مِنَ الرِّجالِ ، وَتأْثِيرُها عَلى والِدِكَ أَكْثَرُ مِنْكَ.

- سَوْفَ تَرْفُضُ أَقْوالي وَتَبْكِي لِأَجْلِ ذَلِكَ.

- لا تَيْأَسْ في الْبِدايَةِ، أَدْخِلْ في رَأسِها أَضْرارَ زَواجِ ذَوِي الْقُرْبَى بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسْلِ . وَاضْرِبْ لَها مَثَلًا

ما حَصَلَ عِنْدَ آخَرِينَ.

- وَماذا مَعَ ابْنَةِ عَمِّي كَيْفَ تَفْهَمُ هذا؟

- عِنْدِي فِكْرَةْ سَأَعْرِضُها عَلَيْكَ لاحِقًا. وَالْآنَ عَلَيْنا أَنْ نَأْخُذَ قَسْطَنا مِنَ النَّوْمِ لِأنَّ غَدًا مُثْقَلٌ بِالْمُحاضَراتِ وَالتَّمارِينِ .

كانَ الطِّلابُ يَرْجِعُونَ إلى أَهْليهِمْ مَرَّةً كُلَّ ثَلاثَةِ أَسابِيعَ، أَمّا أَحْمَدُ فَلِقُرِبِ قَرْيَتِهِ مِنْ يافا فَكانَ يَزُورُ أَهْلَهُ مَرَّةً في الْأُسْبُوعِ ، يَعُودُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ظَهْرًا، وَيَرْجِعُ بِالْحافِلاتِ إلى الْمَعْهَدِ صَباحَ الْأَحَدِ، وَقَدْ أعَدَّتْ لَهُ زَوْجُهُ بَعْضَ الْفَطائِرِ يّأْكُلُها وَزُمَلاؤُهُ في غُرْفَةِ الْمَنْزِلِ .

كانَ أَحْمَدُ بَعِيدَ النَّظَرِ، لَمْ يُكَلِّفْ والِدَهُ شَيْئًا مِنَ الْمالِ ، فَقَدْ عَمِلَ عَلى تَوْفِيرِ مَبْلَغٍ مُحْتَرَمٍ مِنْ عَمِلِهِ في تِجارَةِ الْخُضْرَواتِ والْعِنَبِ وَالتِّينِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ، كانَ كافِيًا لِدَفْعِ قَسْطَيِ التَّعْليمِ، وَعِشْرينَ شَهْرًا لِلْمَنْزِلِ في يافا، وَكانَ يَعْملُ في فُرْصَةِ الصَّيْفِ بِالْبَيْعِ والشِّراءِ يَدُرّانِ  عَلَيْهِ بَعْضَ الْمالِ ، وَيُسْهِمُ مَعَ والِدِهِ في شِراءِ الْمَوادِّ الْأساسِيَّةِ مِنْ طَعامٍ وَشَرابٍ.

كانَتْ زَوْجُهُ امْرَأَةً مُدَبِّرَةً تَقْتَني أعْدادًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّجاجِ وَالْحَمامِ وَتَبيعُ الْبَيْضَ وَالْفِراخَ، واسْتَغَلَّتْ حاكورَةَ الْبَيْتِ الْواسِعَةَ لِزِراعةِ اللِّوبْيا والْبامْيا وَالْباذِنْجانِ وَغَيْرِها مِنَ الْخِضارِ خاصَّةً الذُّرَةَ، تَتَسَلَّى في مَزْرَعَتِها.

عِنْدَما عادَ حَسَنٌ إلى الْمَعْهَدِ كانَ مُتَجَهِّمَ الْوَجْهِ حَزِينًا، فَعَرَفَ أَحْمَدُ ما حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّأْنِيبِ وَالرَّفْضِ. حاوَلَ أَنْ يُسَرِّيَ عَنْهُ.

- ما هُوَ الطَّرْحُ الَّذي فَكَّرْتَ فِيهِ؟

- أُشِيرُ عَلَيْكَ أنْ تُخاطِبَ ابْنَةَ عَمِّكَ في قَضِيَّتِكُما.

- هَلْ جُنِنْتَ يا أَحْمَدُ! كَيْفَ أُخاطِبُها؟

- اِبْعَثْ لَها رِسالَةً.

- فِكْرَةٌ طَيِّبَةٌ. لَكِنْ ماذا أَقُولُ لَها؟

- أُكْتُبْ:

"عَزِيزَتي شَمّاءُ

يا ابْنَةَ عَمِّي وَيا ابْنَةَ خالَتِي، شَبَبْنا مَعًا، وَلَعٍبْنا في السّاحاتِ مَعًا، وَأَكَلْنا مَعًا، وَضَحِكْنا مَعًا، جارَيْنِ في بَيْتَيْنٍ مُتَجاوِرَيْنِ ، فَأَنا وَأَنْتِ ذَوا قَرابَةٍ لَحًّا. أَهْلِي وَأَهْلُكِ فَقَدُوا صَوابَهُمْ، فاقْبَليني أَخًا لَكِ كَما قَبِلْتُكِ أُخْتًا لِي. لا أَصْلُحُ لَكِ زَوْجًا عَمَلًا بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ "غَرِّبُوا النِّكاحَ" لِحِفْظِ سَلامَةِ النَّسْل.

سَيَتَقَدَّمُ إلَيْكِ شَبابٌ خَيْرًا مِنِّي يا ابْنَةَ عَمِّي"

مِنْ أَخِيكِ حَسَنٍ

وَلَمّا تَسَلَّمَتْ شَمّاءُ الرِّسالَةَ ضَحِكَتْ وَقالَتْ: سَبَقَنِي ابْنُ عَمِّي وَكَتَبَتْ لَهُ تَقُولُ:

" إلى حَسَنٍ ابْنِ عَمِّي وَخالَتِي الْغالِي.

لَقَدْ سَبَقْتَنِي بِرِسالَتِكَ، سَتَبْقَى لِي أَخًا عَزِيزًا تَذُبُّ الشَّرَّ عَنِّي، رَأْيُكَ هُوَ الصَّوابُ، أَبْعِدِ الْهُمُومَ عَنْكَ، سَأُقْنِعُ أَهْلي أَنَّنا أَخَوانِ شَرَفُنا وَاحِدٌ، وَعِرْضُنا واحِدٌ.

اِنْتَبِهْ إلى دِراسَتِكَ وَعُدْ إلَيْنا مُعَلِّمًا بِحَجْمِ الدُّنْيا.

مِنْ أُخْتِكَ شَمّاءَ

وَلَمّا عادَ حَسَنٌ مِنْ زِيارَةِ أَهْلِهِ إلى الْمَعْهَدِ كانَ شَخْصًا آخَرَ، يَبَشُّ لِلزُّمَلاءِ، وَفي غُرْفَةِ الْمَنْزِلِ عانَقَ أَحْمَدَ وَقَرَأَ لَهُ رِسالَةَ شَمّاءَ وَقالَ لَهُ: لَقَدْ أَنْقَذْتَ عائِلَةً بِكامِلِها.

وَدارَتِ الْأَيّامُ وانْتَهَى الْعامانِ ، وَكانَتْ حَفْلَةُ التَّخْرِيجِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ في التّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ حَزِيرانَ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَحَضَرَتْ زَوْجُ أَحْمَدَ، وَلَمّا جاءَ دَوْرُهُ لِيَتَسَلَّمَ الشَّهادَةَ قَدَّمَ زَوْجَهُ أَمامَهُ لُتَتَسَلَّمَ شَهادَةَ التَّخَرُّجِ وَسْطَ تَصْفيقِ الْجُمْهُورِ.

وَفي صَباحِ الثَّلاثِينَ مِنْ شَهْرِ حَزِيرانَ تَقَدَّمَ الْخِرِّيجُونَ إلى امْتِحانِ الْجَغْرافْيا وَهُوَ آخِرُ امْتِحانٍ بَقِيَ مِنَ الْبَرْنامَجِ التَّعْليمِي.

تَناوَلَ أَحْمَدُ وَجْبَةَ الْغَداءِ وَانْقَلَبَ هُوَ وَزَمِيلانِ  مِنْ قَرْيَتِهِ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ لِتَخَرُّجِهِمْ مُعَلِّمِينَ مُؤَهَّلِينَ. وَلَمْ يَدْرِ أَحْمَدُ ما يُحَضِّرُ لَهُ الْقَدَرُ.

وَلَمّا وَصَلَ الثَّلاثَةُ إلى مَحَطَّةِ الباصاتِ الْمَرْكَزِيَّةِ صاحَ أَحَدُ الزَّمِيلَيْنِ اُنْظُرْ أَحْمَدْ اُنْظُرْ أَحْمَدْ

فَنَظَرَ أَحْمَدُ فَإذا بِسَيّارَةِ تاكْسِي سَوْداءَ جلَسَ عَلى الْمَقْعَدِ الْخَلْفيِّ رَجُلٌ يُقَبِّلُ بِشِدَّةٍ فَتاةً خِرِّيجَةً وَبِيَدِهِ باقَةُ وَرْدٍ.

دارَ أَحْمَدُ إلى يَسارِ السَّيّارَةِ وَدارَ الزَّميلُ إلى يَمِينِ السَّيّارَةِ.

نَظَرَ أَحْمَدُ وَيا لِهَوْلِ ما رَأى. فَإذا هُوَ مُدِيرُ الْمَعْهَدِ، وَإذا بالْفَتاةِ طالِبَةُ الْمَعْهَدِ.

رَفَعَ الْوَقِحُ عَيْنَيْهِ وقالَ: أَحْمَدُ ماذا تَعْمَلُ هُنا؟

- اسْأَلْ نَفْسَكَ ماذا تَفْعَلُ ؟ هذِهِ هِيَ التَّرْبٍيَةُ الَّتي تَعَلَّمْناها؟

وَإذا بالزَّميلِ في الجانِبِ الْآخَرِ يَصِيحُ بِه: حاميها حَراميها.

هَذا الْمَشْهَدُ كَلَّفَنا تَأَخُّرَ كُتُبِ التَّعْيِينِ أشْهُرًا حَتّى اقْتَنَعَتِ الْوَزارَةُ بِحُجَّتِنا وَزَيفِ الْحَرامي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشاعر.. محمد دومو.. يكتب... لن يراها قلبي.

....لحظة استيعاب🌻