..... النسر والبومة🌻
الكاتب_ الشاعر أ. عبد الكريم
🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀
قصة قصيرة: النسر والبومة.
يُحكى أن نسرا من النسور، أُغرم بواحدة من البوم، وتزوجها سرا في غياب أهله وقومه، وسكن بها في الحجارة والصخور حيث تُفَضِّلُ هي أن تعيش وتُقيم، وانقطع عن أهله مدة طويلة، ولما طالت غيبته وفقدوه، بحثوا عنه في كل مكان دون كلل أو ملل حتى وجدوه، وسألوه عن سبب هجره ومقاطعته لهم وعاتبوه، فأخبرهم أنه إنما فعل ذلك من أجل الزهد والعبادة، وطلبا للهدوء والراحة، وسألوه عن سبب اختياره الحجارة والصخور وسط الخراب، بدلا من الأشجار الكثيفة الملتفة الباسقة وسط الغاب، فأعلمهم أن الزاهد لا يكون زاهدا إلا إذا رضي بشظف العيش على رغده، وشدته على لينه وزينته، وأنه الآن بصدد حياة جديدة تتطلب الانعزال والاعتزال، لما فيها من قساوة وشدة حال، وأنه في هذا المكان مرتاح النفس هانئ البال، قانعا بجديد هذا الحال، لما يرجو من خير في عاقبة المآل .
ولما علم وتأكد أنهم مقيمون عنده تلك الليلة، ولن يغادروا إلا بحلول نهار يوم الغد، استأذنهم لقضاء بعض الحاجات، والعودة خلال لحظات، ولكنه في الحقيقة إنما كان غرضه العثور على زوجته ليعلمها بما استجد من أمور، ويحذرها من مغبة ما قد ينتج عن هذه الزيارة من مشاكل و شرور، وبحث عنها حتى وجدها بين الأحجار والصخور، كعادتها تصطاد الفئران والجرذان والحشرات، فأعلمها بما طرأ من ملمات، وطلب إليها أن لا تُظهر نفسها إليهم، وأن تبقى في العش القريب منهم مع الأفراخ، وأن تمتنع عن عادتها في الصياح إلى غاية مجيء الصباح، حتى لا يُفتضح أمره ويُكتشف سره، فوعدته بذلك وعاد إلى أهله حيث خَلَّفَهُمْ، وتسللت هي إلى عشها القريب منهم حيث تراهم ولا يرونها، وتسمع حديثهم ولا يُحِسُّون بوجودها.
وكان زوجها من حين لآخر أثناء سمره مع أهله، يروغ إليها عندما يُحس بأنها على وشك أن تصيح لأنها عادة مستحكمة فيها، وغير قادرة على الصبر عليها، فيجدها ترتعش وتنتفض، وقد عزمت وهمَّت وكادت، فَيُذَكِّرُها بالذي وعدت، ويترجَّاها إلا امتنعت وصبرت وكَفَّتْ، ثم إنهم بعد ذلك استسلموا جميعا للكرى، فتنفس المسكين الصُّعداء، واستبشر خيرا بسير الأمور على حسب ما أراد واشتهى، وبالذي حتى الآن جرى، وما علم ما انطوى عليه القدر في ثناياه وما درى، فما إن انقضى ذلك الليل وانجلى، ولاح ضوء النهار وانبرى، حتى انتفضت البومة في عشها، وصاحت صيحتها، وخالفت بذلك وصية وتعاليم وأوامر زوجها، وافتضح أمره وأمرها.
فانزعجت النسور لهذا الصوت المنكر من أخس الطيور، وتثبتوا من المكان، وقصدوا جهة الصوت الذي أفزعهم، ونغَّص هُدوءهم وراحتهم، وأزاح الاطمئنان والأمان عنهم، فَصُدِموا لما رأوا وعلموا، لقد رأوا العش مُمَوَّهًا بطريقة لا تكاد تُرى، وفيه البومة جاثمة، وحولها فراخ أجسامهم أجسام النسور، ورؤوسهم صورة طبق الأصل من البوم، فأيقنوا لحظتها بأنه إنما هجرهم كل تلك المدة ليس لأجل الزهد والعبادة، وإنما لأنه واقع في هوى بومة وغرامها، ومتزوج منها، ومُقيم عندها بين الحجارة في الخرائب، ولأنه بعمله هذا خالف عاداتهم وتقاليدهم وشريعتهم، التي لا تسمح ولا تُجيز للنسر بالزواج من غير قومه، فإنه لم يستطع البقاء معهم للذي يُدرك ويعرف أنه لن يجد منهم قبولا ولا استحسانا ولا تشجيعا، وإنما استهجانا ورفضا وصَدّا ومنعا، فتصرف من نفسه، وقام بفعلته مُنفردا برأيه، وتزوج من بومته، ولم يُقم وزنا لسمعة قومه، ولا التزاما ولا احتراما لشريعتهم وشريعته.
فغضبت النسور بعد أن أدركت حقيقة الأمور، وطارت عائدة إلى أوكارها وأوطانها، مُخَلِّفَةً النَّسر زوج البومة وراءها مُنكسر الخاطر في مكانه غاضبا وحانقا يدور، وبعد هذه الزلَّة الشنيعة من حرمه المصون، فإنه طار من ذلك المكان، وهو ينوي المغادرة والهُجران، وعدم العودة أبد الأزمان، وظل مُحَلِّقًا يطير، حتى تعب وخارت قواه، وعند هبوطه سقط على صخرة وانكسر له جناح، وأصيب في جسده بكثير من الجراح، وصار مهيضا لا يطير، وضريرا لا يقوى على المسير.
وفي أحد الأيام، وبينما زوجته البومة تبحث عنه في كل فج وواد، وفي الهضاب والتلال والوهاد، وفي كل مكان، وتسأل عنه كل طير وحيوان، إذ بالمصادفة تلتقيه، وأمارات الحزن والكآبة والتعاسة بادية عليه، والمرض مستحكم فيه، فراحت تعتنقه وتكثر من البكاء، وتعاتبه على هذا الغياب والجفاء وتستفسره عما أصابه، وتسأله عن هذا الداء الذي جعل جناحه كسيرا، وصيره ضعيفا ضريرا، فاعتدل سويا، ونظر إليها مليا، وقال لها: اسمعيني جيدا يا زوجتي البومة، وحاولي أن تفهمي كلامي، ولا تكوني لجوجة جهولة عجولة ظلومة، وإن لم أصدُق وأتَحَـرَّ الصدق والحق في المقولة، فاعترضي ولكن احذري الفجور في الخصومة، وإنما بأدب وأخلاق العفيفة الظريفة اللطيفة الخجولة، إن رحيلي عنك ما كان عن قِلًى ولا عن خصومة، ولكن لأسباب وجيهة معلومة، وضرورة مُلحَّة محتومة، هل تذكرين كم دللتك واعتنيت بك، ولبيت لك كل طلباتك، وحققت لك كل أمنياتك، وأضنيت نفسي لإسعادك، وبذلت في سبيل ذلك كل جهدي وطاقاتي، وأنت لا تعرفين ولا تحسنين إلا النواح والصياح، إن من يتزوج من غير جنسه وقومه وملته ويستحل اللامباح، قليل عليه كسر الجناح، ثم أدار لها ظهره وخلَّفها وراح.
بقلم: عبد الكريم علمي.
الجمهورية الجزائرية.
تعليقات
إرسال تعليق