.... فضفضة🌻


 

الكاتب_ الشاعر أ. الهادي نصيرة

🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀

فضفضة | قصة قصيرة

 بقلم الهادي نصيرة  


كنت أجلس قبالته، بينما كان  منتحيا، بمفرده، إحدى زوايا الكافتيريا، يترشف قهوة، ويدخن ، بعصبية، سيجارة كان قد أشعلها فور وصوله .. ارتسمت على ملامحه علامات الإرهاق، والسهاد، والضجر... وبدا وجهه شاحبا، وعيناه ذابلتين، ونظراته باهتة، تخفيان آثار هموم ثقيلة، ومعاناة طويلة..أطفأ سيجارته الأولى، ليشعل ثانية... تململ، فرك شعره المشوش، ثم عض على شفتيه، وبدا وكأن في داخله بركانا ثائرا يوشك أن ينفجر، ليلقي ما بداخله من حمم القهر المشتعلة.. وبعد أن نقر الطاولة بأنامله نقرات متتالية، التفت إلي، مرسلا تنهيدة من الأعماق، أطلق، بعدها، العنان للسانه، وأنا أصغي إليه صامتا : 

«الوجع يرهق قلبي، والندم يعذبني، والفراغ يثقل أيامي الخاوية..منذ أن افترقنا، تعبتُ، وفقدتُ لذة الحياة، أنا الذي تربيتُ على أن لا أُسقى ماء الحياة بذلة..تربيتُ على الكرامة، وعزة النفس، والإباء... 

 ولأنني كنتُ كذلك، فقد ظللتُ أكره الطمع، والنفاق، والكذب، والبهتان.. لم أدخر جهدا، وعملتُ بجد وكد، دون كلل، أو ملل.. كنتُ في مستوى مسؤوليتي، كزوج محترم لواجباته، تجاه شريكة حياته،

لكن الدهر انقلب علي، وظل شاهرا تمرده في وجهي..»

 صمت لبرهة، أشعل سيجارة، وأطرق مفكرا، ثم استأنف حديثه، بعد أن تيقن من أنني أنصت إليه : 

 « زوجتي التي تقاسمتُ معها التضحيات، من أجل سعادة أسرتنا، ما لبثت أن غيرت معاملتها تجاهي، وانحنت لرغبة أبيها، وأوامره التي لا ترد.. كيف لا ؟ وهو الرجل الثري،  الذي ازداد ثراء وجاها،  منذ أن اتسعت مجالات تجارته، وربت أسهمه في بورصة الأوراق المالية..

وبمرور الأيام، صار صهري ينظر إلي من عليائه، لا يعيرني أي أهمية، مصرحا أنه لم يعد يروق له أن يكون صهرا لشخص قادم من الريف، ليس له غير مرتب الوظيفة الذي لا يستطيع أن يوفر له ولأسرته حدا أدنى من الراحة، والرفاه ..

ذات يوم نادى زوجتي ، وخاطبها قائلا :

" لم أستوعب إلى حد هذه الساعة فكرة رفضك لمن تقدم لطلب يدك من الأغنياء المعروفين بالمدينة !! كيف لي أن أقبل بخرافة حبك لذلك الرجل الفقير ؟ هل تعتقدين أن الحب بإمكانه أن ينمو ويزهر ، في ظل الفقر والخصاصة ؟ "

وظل صهري يخطط لما كان ينوي تحقيقه، وما لبث أن نجح في إقناع ابنته بطلب طلاقها مني، ليزوجها أحد شركائه الجدد، في مشروع صفقة قال عنها أنها صفقة العمر.. وهكذا انتهى المخطط إلى صدور حكم الطلاق، لتغادر زوجتي المنزل، رفقة ابنتنا الوحيدة سلسبيل، التي حكم عليها الدهر بفراق من لن تستطيع على بعده صبرا. وها أنا، اليوم، أنام وأصحو وحيدا، غير مصدق لما جرى، وبتلك السرعة العجيبة..»

نظرت إليه، وقد توقف للحظة عن الكلام ، بينما بقيت أنتظر مواصلته للحديث.. 

أمسك بسيجارة أخرى بين أسنانه، وبدا منفعلا، لحظة استعادة الخيط الرابط لما تبقى من أحداث حكايته  : 

« تزوجت طليقتي من الشخص الذي اختاره لها والدها، لكن القدر شاء أن تصاب بمرض استوجب إجراء عملية جراحية دقيقة، ضاع معها كل أمل، لها ولزوجها، في تحقيق حلم الإنجاب مجددا..

دارت الأيام..طلقها زوجها، بعد أن مات أبوها إثر مرض مفاجئ، فصارت تتخبط لا تدري ما تفعل ..كيف لحياتها أن تستمر على ذلك الحال ؟ 

عليها أن تفكر في ابنتها التي حرمت من أبيها لسنوات، هكذا، بدون ذنب..

ذات يوم،  قررت مهاتفتي : "أرجوك أن تسامحني..لقد أخطأت في حقك.. ..سامح الله أبي الذي أوقعني تحت طائلة ضغط، لم أستطع غير الرضوخ إليه .. امنحني فرصة ترميم ما أفسده الدهر بيننا، لتعيش ابنتنا سلسبيل، مبتهجة، في حضن والديها.." »

صمت لبضع ثوان، ثم واصل كلامه : « إنني متعب جدا يا أخي..أشعر أنني صرت ، في دوامة، تتقاذفني الأفكار من هنا وهناك ..لا أدري إلى أين أسير..»

كنت مقررا أن أسمعه فقط،  ولكن انتابني شعور غامض بآن معاناته قد لامست قلبي.. صرت على وشك أن أبوح له بأحاسيسي، أنا الذي تحاصرني الوحدة القاسية أيضا.. ولكن، كيف سأقول له بأن لدي أولادا اختاروا الهجرة إلى الخارج، وتركوني وحيدا ؟..

انسحبت بهدوء، وقد خلا  المكان من رواده، ولم يعد ثمة شيء هناك غير الطاولات والمقاعد والفراغ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشاعر.. محمد دومو.. يكتب... لن يراها قلبي.

....لحظة استيعاب🌻