الأستاذ.. عبدالستار عمورة.. يكتب... بائعة الرغيف.

 قصة قصيرة

بائعة الرّغيف

وقفت على قارعة الطّريق واضعة أمامها سلّة"كسرة الدّار"والّتي تركت عليها أمّها بصمة أنينها وأنفاسها المتلاحقة مع العجين والفرن.

لقد أخذ العياء من جسدها النّحيف قوّته ورسم العناء على محياها آثاره، فبدت شاحبة لوجه ذبلت نضارته وهي لا زالت غضّة كفنن الكرز الفتيّ، حيث لم تتجاوز عامها الثّامن.

غاصت عيناها تائهة في المارّة وتحرّكاتهم واختلاف تصرّفاتهم..كانوا يرمقونها بنظرات غريبة في تصوّرها..حزينة في عمقها،أوقدت فرن أشجانها وعوز عائلتها..ألهبت جمر جوعها..أشعلت ذكريات مدرستها الّتي انقطعت عنها.

تذكّرت دقّات الجرس والّتي تناهت إلى مسامعها فطربت أيّما طرب..تناغمت ألحانه..رفرفت أجنحة قلبها فازدادت شوقا لها ولزميلاتها ومعلّمتها.

تذكّرتها وهي تربّت براحتها على رأسها،تمسح على شعرها، فتنسى أحزان ماضيها المؤلم.

تذكّرت الفناء وهو يحتضنهن ورنين ضحكاتهن مع تطاير ضفائرهن وخفّة حركات أجسامهنّ وصوتهنّ يعلو بأغاني واناشيد الطّفولة المرحة:"هيّا نلعب قبل المغرب في أشكال مثل الموكب،دوروا،دوروا كالحذروف،ثم انضمّوا مثل الصّوف هذا عهد لا ننساه ،زدنا لطفا ياربّاه.."

تذكّرتهنّ حين كنّ يشاركنها لمجتهنّ فينطفئ طوى بطنها.

مدّت يدها المرتجفة من البرد لهذه الصّبيحة المصقعة من شهر ينايرلتقضم من رغيف ساخن  ،لكن تذكّرت وعيد أمّها الّتي ستحاسبها على عدد الأرغفة وقطع الدّنانير الّتي تجنيها لتجود عليهم بما يبقى في السّلّة أو الخبزات البائتة.

راحت بخيالهابعيدا..وجه أبيها الّذي كساه الشّحوب ولطمه العناء..

أبوها الّذي أخذ منه التّعب قوّته ومن جسده النّحيل حركته ليحضنه الفراش المتروك في زاوية الغرفة العطنة وهو يصارع مرضه العضال.

اسودّت الدّنيا في عينيها العسليتين،لاحقتها أفكار مؤلمة..سكنها اليأس والإحباط.

شعرت بيد تربّت على كتفها لتفيق من أحلامها الوردية تارة ومن لوعة أشجانها تارة أخرى..دنانير ملأت راحتها الصّغيرة،أرغفة غادرت..تراقصت روحها ورقص معها قلبها المكلوم.

نظرت إلى السّماء راجية..بصوت خفيض: 

-"شكرا لك ربي."

مسحت دمعات وماء تقاطر من أنفها بكمّ فستانها الرّثّ..بالقرب منها توقّفت سيّارة فاخرة بلون الغرابيب السّود.. سيّدة فارعة الطّول بلباس أنيق..حيّتها بلطف مع ابتسامة زرعت في روحها فرحة عارمة..أخذت كلّ ماعندها..أكرمتها بورقة نقديّة قائلة:"احتفظي بالباقي بنيّتي.."

تحرّكت ستائر مهجتها، عزف على دفّ الأفراح حظّها لهذا الكرم الباذخ بالنّسبة لها والّذي لم تتعوّد عليه.

أسرعت إلى الحلواني..ابتاعت قطعة أخمدت بها ضراوة معدّتها الملتهبة فطابت بها نفسها..سافرت حينها فوق أجنحة سحائب بيضاء، سرعان ما اكتسحها ضباب عكّر رؤيتها لغد مبهم وسلّة رغيف واعدة لأيّام  مجهولة؛ تتسابق والقدر المحتوم.


الأديب عبد الستار عمورة الجزائر



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشاعر.. محمد دومو.. يكتب... لن يراها قلبي.

....لحظة استيعاب🌻