...عام اخر🌻



الكاتب_ والأديب عبد الستار عمورة

🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀

 عام آخر

لقد قال الدّهر كلمته..وتساقطت أوراق عمري..ونزف قلمي..وجفّت محبرتي..

تساءلت عندها:"أأضحت أيّامي كلّها أيّاما مخاتلة..؟!"

لم تبق إلّا أيّام معدودة لاستقبال العام الجديد..  عام كغيره.. تفاؤل..أمنيات..أحلام"سندريلا والأمير."أحلام قصص"ألف ليلة وليلة."وهناك من يبكي ليلاه..ومن يمنّي نفسه بالعبور للضّفّة الأخرى حيث الجنّة الموعودة مع الحسناوات والأوراق النّقديّة الخضراء..

وهناك من يبكي شبابه متلفّظا بالبيت الشّعري المشهور:"ليت الشّباب يعود يوما....".

تدثّرت معطفي والّذي اخترته ذات يوم من بين أكوام الألبسة القديمة منقضّا عليه كطير كاسر يتضوّر جوعا..أو ربّما خوفا من أن يسلب أو يمتشق منّي على مرأى من عيوني الذّابلة وجسمي الهزيل المتسامح ولو عن غير قصد تاركا الجدال والخصام ولو هضمت حقوقي.

كانت رائحته غريبة ذلك اليوم نوعا ما..امتدّت يدي إلى جيوبه الخارجيّة والدّاخلية،عثرت على أزرار وتذكرة "ميترو الأنفاق" او ربّما "لقطار سريع" لا ادري..فأنا لا أحسن لغة "العمّ سام"ولكن أجيد لغة"موليير"بطلاقة بل أنافس أصحابها في عقر دارهم..لقد فرضت علينا هذه الّلغة منذ الصّغر أي بعد الإستقلال مباشرة مع لغة الضّاد، الّلغة الأمّ طبعا.تساءلت على مضض:

-من يكون صاحب هذا المعطف..؟ شاب أم كهل مثلي ؟ حيّ أم ميّت..؟ كافر أم مسلم..؟مريض أم معافىً؟ و هل....وهل...و....و....؟!

تساؤلات غريبة صالت وجالت في تلافيف عقلي..ابتعته أخيرا..وضعته في كيس أسود بلون ريش الغرابيب..وانطلقت به مباشرة إلى محلّ التّنظيف..لأرجع إليه بعد يومين..وانا أهمس في نفسي: "المهمّ سأحتمي به من صقيع الشّتاء.."هذا ماحلبت" كما قال جدّي ذات يوم.

كنت مزهوّا به،لقد كساني محجبا ثيابي الأخرى البالية؛ حرارة سرت في أوصالي رغم برودة هذه الصّبيحة من أوائل شهر يناير..ابتسمت الشّمس بحياء لفترة قصيرة سرعان ما حجبتها سحب داكنة ممتلئة.

هزيم رعد وبرق مخيف وسواد اكتسح المكان..وابل من الأمطار الغزيرة داهمني فهرعت إلى أقرب مكان للإحتماء.

كنت أراقب المشهد من نافذة مقهى الحيّ العتيق المقابل للشّارع المؤدي للبحر..ساد السّكون لحظتها إلّا من نقرات المطر.

تسمّر نظري لمشهد سيّدة تبدو في العقد الرّابع وهي متشبّثة بمطريتها تصارع الرّياح وهبوبهاوالرّيح تصارعها..طارت من يدها وتلاعبت بها كأوراق الخريف المتساقطة في المعابر والممرّات والأزقّة الضّيّقة.تمسّكت أخيرا بفستانها الفضفاض وهي تتعثّر في مشيتها جرّاء كعب حذائها العالي.

عبق قهوة"الجزوة" داعب أرنبة أنفي ..طلبت كأسا لأخمد نارا تأججت ساعتها في أعماقي لأخطّ شيئا ما.. أو بعض الخربشات.. هذا الجوّ يلائمني كثيرا للإبداع.

كحّة متواصلة تواصل رنين المنبّه، انبعثت من زاوية المقهى..غمامة دخّان السّجائرعتّمت الرؤية..بعض الرّوائح العطنة أفلتت من أصحابها..الباب والنّوافذ مغلقة تفاديّا للبرد.. اختلطت أموري،فلم أستطع فعل شيء؛ غادرت بعد أن فتر الجوّ قليلا ولم يبق إلّا رذاذ خفيف.

مشيت والشّارع الطّويل..اتّجهت إلى الشّاطئ..البحر مضطرب جدّا..امواجه ثائرة..غاضبة تتصارع و الصّخور العتيدة..

تنبّهت لطائر من طيور نزق البحر وحيدا..انفرد عن سربه وبقي يراقب مثلي تماما عندها راودتني أفكار متلاشية.. سؤال غريب نوعا ما راودني لحظتها:

-هل الطّيور والحيوانات يصيبها الإكتئاب مثل الإنسان..؟!

التقطت عيني منظرا آخرا لإطار عجلة متروك كادت الرّمال أن تدفنه بعد أن لفظته الأمواج العاتية.

نعيق النّوارس مع حركاتها الدّؤوبة، تعلو تارة وتهبط طورا، تلتقط الأسماك عازفة سمفونيتها المعهودة لوليمة دسمة.

الكلّ يصارع في هذه الحياة البائسة والقصيرة، رغم بزوغ الشّمس وإطلالة القمر.

سأحتفل بعامي الجديد هنا بعيدا عن أيّ جلبة أوضجيج..لم أعد أتحمّل المكاء والتّصدية، إلّا غضب البحر المتمرّد..فرسالته تطفئ أعماقي المتأجّجة بحمم ثائرة لماض حزين مكلوم ومستقبل مظلم.

أشكو له لوعاتي وآلامي وأشجاني وطريقي المتعرّج لمتاهات سرمديّة مجهولة المعالم،لم تتّضح منذ نعومة أظفاري..سياط القدر لم ترحمني قطّ. ابتسمت ابتسامة باهتة:

-ماذا أفعل..؟مللت حتى نفسي..!

التقطت عودا..رسمت قاربا على الرّمال النّديّة..اتّخذت خشبتين كمجدافين؛ ناورت وطفلي الباطني بإيعاز من ظلّي إلى الوجهة المتأجّجة بوهج حَمْوِ الدّروب؛ عندها آمت روحي لماء النّبع الزّلال، المنبثق من الصّخرة، قرب بيت جدّي العتيق؛ لأهمد سعيرا دام سنين عددا.

كلّت يداي من الحركات، أصابها الوهن، فتوقّفت..بالكاد وقفت على رجليّ المرتجفتين..نفضت حبيبات الرّمل العالقة على معطفي"الكشميري"و وبنطالي"الجينز"

درت دورات حول نفسي لا أعلم لماذا..!؟

نزعت حذائي..شمّرت على رجليّ ومشيت وطول الشّاطئ، أبحث عن شيء ما لفكرة دقّ ناقوسها في رأسي..!

قارورة "بلاستيكيّة"سميكة غزى المدّ نصفها بالماء الأجاج ولذعاته المالحة..بدت مترنّحة.. متماسكة في الرّمل..انتزعتها كسيف من غمده، أفرغت محتواها،أخرجت"الجنوي"من جيبي، قطّعتها من عنقها و من أسفلها فبدت كأسطوانة.

انفردت في مكان قرب صخرة متاخمة للشاطئ وفي مأمن من التّيارات الهوائيّة، أخرجت شمعة عرجاء مزخرفة، التقطتها من بقايا قمامة متجر"سوبيرات"المدينة.

ثبّتها في الرّمل وبعود ثقاب أعطيتها حياتها..حميتها بالأسطوانة الّتي صنعتها..تراقصت مع ضوئها الخافت وهي تذرف دموعها معي لتوديع عام واستقبال عام"البوناني" الجديد بسرباله الباهت ككلّ مرّة.


د.الأديب عبد الستار عمورة الجزائر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

.... مالي🖤

الأستاذ.. نعمه العزاوي.. يكتب...الحياة.

.....سوالف السلاف🌻