الكاتب.. يونس الحداد.. يكتب..ذنب لا يغفر.

 ذنب لا يغفر

______________

                 (١)

هرع أبوها وأمها إليه بعد أن أخبرهم بترك ابنتهم يستعطفونه: ابنتنا في المستشفى أصيبت بإغماء.. نرجوك يا بني ارجع إليها وسنفعل كل ما يرضيك.. سيترك أخيها العمل معك.. لكن لا تتركها نرجوك نرجوك..

تركهم وصعد على سطح منزله فجَرَت أخته وراءه: ارجع إليها يا أخي.. إياك وكسرة قلب البنات.. إن شرايين قلوبهن متصل بحبل الله تعالى..

التفت إليها حانقا وقال في تكبر: إن قراري لا رجعة فيه.. لن أعود إليها مرة ثانية.

                   (٢)

رآها أول مرة حين كان ذاهبا لزيارة أخيها زميله في العمل وكان مديراً على أخيها.. سحرته بعينيها العسليتين ووجهها المسحوب المزين بأنف فرنسي.. وجهها أبيض بحمرة.. شعراتها البنية تتمايل على وجتتيها فتكسبها فتنة لا رجوع عنها.. إنها ماجدة.. كانت تبلغ حينها من العمر تسعة عشر عاماً ولضيق حال والديها اكتفت بتعليمها المتوسط مع ثقتهم أنها ستحصل على الزوج المناسب لجمالها البارع..

رجع يومها لوالديه وأمه مقرراً أن يذهب لخطبتها الآن.. جعلوا يقولون له: يا عصام ما زلت صغيرا يا بني أنت لم تتخط الاثنين وعشرين عاماً بعد.. ولا توجد لدينا الإمكانيات المادية لزواجك الآن.. قال: إن لم تذهبوا معي سألقي بنفسي من الشباك الآن.

قالوا: اهدأ يا بني.. كما تريد حدد موعدا وسنذهب معك..

               (٣)

ذهب للحديث مع أخيها ففرح بشدة وكلم أخته ووالديه.. فرحت ماجدة ذلك أنه أعجبها أيضاً فهو كان شابا وسيما يتمتع بكاريزما خاصة كما أن تقلده منصب المدير في صغره أكسبه هيبة وجلالا تحبهما المرأة في رجلها الذي ستتزوج منه.. كان أول شاب تتكلم معه في حياتها فما زالت صغيرة بعد ولم تختلط بشباب في مراحل دراستها كما أنها كانت في زمن الكاسيت والراديو ولم يأت بعد زمن الإنترنت بمصائبه.

                (٤)

ذهب إليها مع والديه سعيدا مبتهجا.. قابلوهم بفرحة شديدة وأحب والداه ماجدة.. فهي كانت هادئة الطباع مطيعة لا يراها أحد إلا تحجز في قلبه موقعا.. تعلق بها أخواه الصغيرين وجلست تلعب معهما.. مرت الشهور والحب يقوى بينهما وتشتعل.. كانت ماجدة لا تطيق صبرا على موعد زيارته الأسبوعية فتذهب لتقابله في الخارج.. كانت تقول له دوما: أنت أول وآخر حب في حياتي.. إياك أن تجرحني يوما.. لن أتحمل جرحا منك.. فجراح القلب لا تلتئم أبدا.

- لا تقولي ذلك يا حبيبتي فأنتِ أرضي وسمائي ونوري وضيائي.. إذا غبتِ عني تنقلب حياتي لظلام حتى ألقاكِ.

- أنت تشاهد أفلاما كثيرة.. لا أريد كلاما.. أنا أشعر أنك ستتركني يوما ما.. فللمرأة حاسة نحو الرجل لا تخطئ.

- حبييتي لم تشُكّي في حبي لكِ؟

- سلمتك نفسي وأمنتك عليها..

 ما زلت محافظة على نفسي لكني سمحت لك بالاقتراب مني وضعفت أمام حبك..

 تغيرت نظرات عينيه وقال: أنتِ زوجتي بعد سنتين هل تشُكّي في ذلك ؟

سكتت ماجدة ولم تجب.. كانت تشعر بأنه تغيّر معها بعد أن سمحت له بما لا يجوز أثناء الخطوبة.. أما هو فقد كان شكاكا في كل شيء.. أصبح يشك في حبها له وفي سلوكها.. لم تحسب ماجدة يوما حسابا لخبثه ومكره.. تعاملت معه بمشاعرها وحسب وسلمت قلبها له تسليما أبديًا.

                  (٥)

بدأ أخوها يتكبر على زملائه في العمل لأن خطيب أخته هو المدير فاصطنع مشاكل مع الموظفين والعمال حتى أصدر عصام قرارًا بخصم خمسة عشر يوما له..

رجع أخوها إلى المنزل شاكيا لأخته ووالديه.. ذهب عصام وراءه.. فأجبر والدا ماجدة أخاها على ترك العمل إرضاء لعصام.. ابتسمت ماجدة وفرحت فقد كان حبه يملأ كيانها وهو أهم عندها من أخيها وأبيها وأمها.. 

كان لها أخوان يتسمان بالشقاوة في سلوكهما لكنهما لا شأن لهما بماجدة فهي أكبرهما وسلوكها يختلف عنهما تماما.. ذهب يوما إليها فوجد أخويها يجريان بسكين وراء بعضهما في الشارع.. امتعض بشدة وقال في نفسه: هل هؤلاء سيكونون أنسابي؟

بدأت ماجدة تشعر بالخوف.. فهي تعلم جيدا شخصيته الشكاكة وأنه من الممكن أن يأخذها بذنب إخوتها مع أن الله تعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)..

                   (٦)

وقع شك ماجدة في محله.. فأرسل عصام صديقا له ليخبر والديها بفسخ خطبته مع ماجدة.. فأصيبت ماجدة بصدمة عصبية وأغمى عليها ونقلت للمستشفى..

                (٧)

فزع عصام بعد أن تذكر قصته مع ماجدة على صوت زوجته تقول له في حنق وغلظة: العشاء في المطبخ إذا أردت أن تأكل..

وتركته ونامت في الصالة..

قال في نفسه: إن كسري لماجدة هو ذنبي الذي لا يغفر..

يعيش مع زوجته طيلة خمسة وعشرين عاما.. هو حقا عذاب أبدي.. لكنه كلما اشتد عليه العذاب خرج يجلس على كورنيش النيل ويقول لنفسه: أستحق هذا العذاب أستحقه بشدة..

تزوجها بعد تركه لماجدة بشهر تقريبا لم يخترها بناء على حب أو علم.. بل اخترها من أجل الزواج فقط.. كلما سمع زوجة تعامل زوجها بحب حنق عليها وعليه وندب حظه التعيس..

               (٨)

خرج ليلا بعد المشاجرة المعهودة كل ليلة يقول لنفسه: يارب أنت تغفر الذنوب جميعا فلم ذنبي لا يغفر ؟

تذكر قول أخته له في يوم إصراره على ترك ماجدة: إن شرايين قلوب البنات متصلة بحبل الله تعالى..

قال: هل طردت من رحمة الله تعالى كما طرد الشيطان..

بينما هو غارق في همه إذ به يلتقي ماجدة بعد خمسة وعشرين عاماً تسير مع ولد وبنت يشبهانها كثيرا.. ظل يشبه عليها وتشبه عليه.. نظرت إليه نظرة حزن ونظر إليها نظرة بائسة.. قالت لأولادها: اذهبا إلى البيت وسألحق بكما بعد شراء لوازم التسوق.. اقترب منها واقتربت منه.. قالت في حزن: كيف حالك يا عصام ؟

- (في بؤس شديد ورأس خافضة) بخير.

- علمت أنك تزوجت الثانية على زوجتك فهل وجدت السعادة ؟

- كانت السعادة بين يدي لكني تكبرت عليها وتجبرت وظلمتها.

توقفت ماجدة عن الكلام ونظرت إليه نظرة غيظ وذهبت..

أخبرته ماجدة أنها تزوجت من طبيب بشري وأن أولادها يدرسون الطب أيضا.. بينما أولاده ضائعين كما هو ضائع..

ختم حديثه معها قائلا: غفرت الذنوب جميعاً وذنبي لا يغفر.

____________

كتابة/ يونس الحداد



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشاعر.. محمد دومو.. يكتب... لن يراها قلبي.

....لحظة استيعاب🌻